الحزبين الجمهوري والديمقراطي- رؤى متضاربة وفرص الشرق الأوسط في الانتخابات الأمريكية.

المؤلف: د. الخير عمر أحمد سليمان10.13.2025
الحزبين الجمهوري والديمقراطي- رؤى متضاربة وفرص الشرق الأوسط في الانتخابات الأمريكية.

منذ نشأتها، احتكر الحزبان الجمهوري والديمقراطي الساحة السياسية الأمريكية، وأدّيا دورًا جوهريًا في رسم السياسات الداخلية والخارجية للبلاد. ولكن قبل ترسيخ نظام الحزبين، الذي نبع من الممارسات السياسية وضروراتها، كان هناك عامل بالغ الأهمية ساهم بشكل كبير في استمرار التجربة الأمريكية وتميزها بالاستقرار حتى يومنا هذا، ألا وهو اعتماد الدستور في 17 سبتمبر/ أيلول 1787، والشروع في تطبيقه في 4 مارس/ آذار 1789.

لقد صمد الدستور الأمريكي لأكثر من قرنين من الزمان، ويعود الفضل في ذلك إلى مؤسسيه الذين نجحوا في إرساء مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتحقيق التوازن بينها بما يضمن حماية مصالح الأغلبية دون المساس بحقوق الأقليات، مع الحرص على إقرار الحرية والمساواة، والحفاظ على الحدود الدستورية بين اختصاصات الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات.

فلسفة الحزبين

يمتلك الحزبان الرئيسيان رؤى وفلسفات متباينة في الحكم، قد تصل في بعض الأحيان إلى حد التعارض. وتتجلى الأسس التي تفصل بين تصورات الحزبين في الخلافات حول قضايا متعددة، مثل دور الحكومة الفيدرالية، والحريات الفردية، والمسؤولية الاجتماعية.

يتبنى الحزب الديمقراطي نهجًا يدافع عن حقوق العمال والمزارعين، ويدعو إلى المساواة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية. يؤمن الديمقراطيون بدور أكثر فاعلية للحكومة الفيدرالية في معالجة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وهم بالتالي أكثر دعمًا لبرامج الرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحية الشاملة، والقضايا البيئية.

في المقابل، تركز فلسفة الجمهوريين على أهمية تقليص حجم الحكومة الفيدرالية، وتخفيف القيود التنظيمية على قطاع الأعمال، بالإضافة إلى خفض الضرائب على شركات القطاع الخاص، ومنحها إعفاءات ضريبية تمكنها من المساهمة بفاعلية في دعم الاقتصاد وخلق المزيد من فرص العمل.

إن هذا التباين في التصورات وفلسفات الحكم بين الحزبين، هو ما دفع البعض للاعتقاد بأن الديمقراطيين يمثلون الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة من الموظفين والعمال، والتي يشكل فيها المهاجرون والسود والأقليات الأخرى الشريحة الأساسية، بينما يرى آخرون أن الحزب الجمهوري هو حزب الأثرياء من رجال الأعمال وملاك الأراضي، وغالبيتهم من البيض.

بناءً على ذلك، وبالنظر إلى أجندة المؤتمرين العامين للحزبين الجمهوري والديمقراطي، اللذين انعقدا مؤخرًا في إطار الاستعدادات للانتخابات الرئاسية لعام 2024، يمكننا القول إنها تعكس الاختلافات الجوهرية في فلسفة وتصور كل حزب للحكم، والقاعدة الاجتماعية التي يستند إليها.

يهدف هذا المقال إلى الإجابة على عدة أسئلة، منها: ما هي الأفكار الرئيسة التي طُرحت في مؤتمري الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وما هي الفروق الجوهرية بينهما؟ وما هي فرص هذه الأفكار لدى الناخب الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بقضايا السياسة الداخلية؟ وهل هناك أي اختلاف في الطرح والآليات فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية؟ وإلى أي مدى يؤثر الصراع الداخلي بين الحزبين على قدرة الحزب الفائز على تبني سياسة خارجية فاعلة أو متحفظة؟ وما هو موقع الشرق الأوسط وقضاياه في أجندة الحزبين الخارجية؟

نظرة من داخل المؤتمرين

انطلقت فعاليات المؤتمر العام للحزب الجمهوري في الفترة من 15 إلى 18 يوليو/ تموز في مدينة ميلواكي بولاية ويسكونسن، وهي إحدى الولايات المتأرجحة التي قد تلعب دورًا حاسمًا في تحديد نتيجة الانتخابات المقبلة.

انعقد المؤتمر في ظل ظروف سياسية وأمنية بالغة الحساسية بالنسبة للحزب وأنصاره، وذلك على خلفية محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس السابق دونالد ترامب في ولاية بنسلفانيا في 13 يوليو/ تموز، بينما كان يستعد ليصبح المرشح الرسمي للحزب الجمهوري.

في المقابل، عُقد مؤتمر الحزب الديمقراطي في ظل أوضاع استثنائية، أبرزها تنحي الرئيس جو بايدن عن قيادة حملته الرئاسية؛ بسبب عوامل عديدة، أهمها تراجع شعبيته نتيجة لدعمه غير المشروط لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وما نتج عن ذلك من مقتل أكثر من أربعين ألف شخص في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

أظهرت استطلاعات الرأي تراجعًا في شعبية بايدن بين الناخبين الشباب، الذين يمثلون شريحة كبيرة من الكتلة الانتخابية، بالإضافة إلى ذلك، أثرت المناظرة الأولى التي جمعته بدونالد ترامب، والتي بدا فيها بايدن غير قادر على التركيز بسبب تقدمه في السن، على نظرة الرأي العام لقدرته على تحمل أعباء منصب الرئاسة لولاية ثانية.

تم اختيار مدينة شيكاغو بولاية إلينوي لاستضافة المؤتمر، الذي استمر من 19 إلى 22 أغسطس/ آب. وجاء اختيار هذه المدينة، الواقعة في منطقة الغرب الأوسط الأمريكي، التي تعتبر من معاقل الديمقراطيين الهامة، وتُعرف تقليديًا باسم "الجدار الأزرق" الذي ساهم في فوز الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس في عام 2020، وفي نجاح الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022.

من بين أبرز القضايا التي ركز عليها مؤتمر الحزب الجمهوري قضية الحدود وتدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود الجنوبية، وهي قضية يتم استغلالها كورقة انتخابية لكسب أصوات الناخبين في الولايات الحدودية. يسعى ترامب للترويج لفكرة أن هؤلاء المهاجرين يشكلون تهديدًا أمنيًا للمواطنين الأمريكيين ولوظائفهم.

كما حظيت قضية انعدام الأمن وارتفاع معدلات العنف، حسب التصور الذي تروج له الدعاية السياسية الجمهورية، باهتمام كبير، في محاولة لتقديم ترامب كمنقذ قادر على بسط سلطة القانون، على الرغم من أن ترامب نفسه يُعتبر من قبل الكثيرين على رأس قائمة منتهكي القانون بسبب موقفه من الهجوم على مبنى الكونغرس ومحاولته تعطيل اعتماد نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2020.

في السياق ذاته، حاول المؤتمر مناقشة التحديات الاقتصادية التي تواجه الناخب الأمريكي والوعد بحلها، على الرغم من أن العديد من المراقبين يرون أن سوء إدارة ترامب لأزمة جائحة كورونا تسبب في العديد من الصعوبات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي، وعلى رأسها قضية التضخم.

في المقابل، تناولت أبرز محاور مؤتمر الحزب الديمقراطي قضايا متنوعة، مثل حماية الضمان الاجتماعي، وخفض تكاليف الرعاية الصحية، وخفض الضرائب، والمطالبة بحماية حقوق المرأة في الإنجاب، بما في ذلك تنظيم النسل والإجهاض. وقد أصبحت قضية الإجهاض في صميم اهتمام النساء في معظم الولايات الأمريكية، باستثناء بعض الولايات الجنوبية، منذ أن ألغت المحكمة الدستورية العليا قانون Roe v. Wade.

كما سعى المؤتمر إلى طمأنة الناخبين بشأن الوضع الاقتصادي، من خلال الوعد الذي قدمته كامالا هاريس بتقديم الدعم المالي للأسر ومساعدة الراغبين في شراء مساكن لأول مرة بمبلغ يصل إلى 25 ألف دولار. إلا أن المعضلة تظل قائمة، حيث لم يتم تحديد آليات عملية تمكن المرشحة، في حال فوزها، من توفير الأموال اللازمة لتنفيذ هذا الوعد.

ولعل أبرز الإخفاقات التي واجهها الديمقراطيون هو سقوطهم في امتحان الديمقراطية، عندما سمحوا لامرأتين من عائلات المحتجزين لدى حماس بالتحدث في المؤتمر، بينما مُنع الفلسطينيون من الحصول على الفرصة ذاتها للتعبير عن المعاناة الإنسانية والأخلاقية التي يواجهها الكثيرون في قطاع غزة والضفة الغربية.

هناك اختلافات جوهرية بين الطرح الذي قدمه الحزبان. فالطرح الجمهوري يرتبط بشكل وثيق بالشرائح الاجتماعية التي سبق ذكرها. والملحوظ أن الخطاب الصادر عن مؤتمر ميلواكي لم يتمكن من تجاوز دائرة الكتلة الداعمة للجمهوريين. ومن المعروف أن أهم عوامل فوز أي مرشح هو قدرته على مخاطبة الشرائح الأخرى التي تقع خارج دائرة نفوذه التقليدي، وهو ما لم يحدث بسبب طبيعة الخطاب الشعبوي الذي يتبناه المرشح دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس، حيث لم يختلف الطرح المقدم كثيرًا عن خطاب عام 2016.

يلاحظ غلبة خطاب الكراهية وإثارة النعرات الثقافية على حساب معالجة القضايا الاقتصادية الملحة التي تواجه الناخب الأمريكي. إن استخدام تكتيك الاستثمار في الانقسامات المجتمعية والهجوم الشخصي على الخصوم لم يعد مقبولًا لدى شريحة كبيرة من الناخبين المستقلين، الذين يعتمد عليهم حسم المنافسة بين المرشحين، خاصة في الولايات المتأرجحة مثل جورجيا، وميشيغان، ونيفادا، وويسكونسن، وأريزونا، وبنسلفانيا. ومع ذلك، فإن أهم المكاسب التي حققها المؤتمر العام للحزب الجمهوري هو توحيد جميع تيارات الحزب واصطفافها خلف ترامب.

في المقابل، استفاد الحزب الديمقراطي من انسحاب الرئيس بايدن من السباق الرئاسي والدفع بكامالا هاريس، البالغة من العمر 59 عامًا، والتي تصغر ترامب بحوالي عقدين من الزمن، مما جعل فارق السن نقطة إيجابية للديمقراطيين بعد أن كان نقطة سلبية عليهم، وبالتالي أصبح كبر السن وعدم القدرة نقطة ضعف موجهة ضد ترامب.

نجح مؤتمر الديمقراطيين في تشجيع شريحة الشباب على العودة إلى دائرة الفعل السياسي من خلال خطاب متفائل يركز على المستقبل بدلًا من الماضي، وهي ميزة كبيرة إذا ما تم استثمارها بشكل صحيح من خلال التركيز على قضايا مثل التغير المناخي والحريات.

أظهر استطلاع أجرته مؤسسة "CIRCLE" بين الشباب قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2024، أن 57% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا قالوا إنهم "من المرجح جدًا" أن يصوتوا في عام 2024، وقال 15% آخرون إنهم "من المرجح إلى حد ما" أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات.

ووجد الاستطلاع أن 51% من الشباب الذين من المرجح جدًا أن يصوتوا يؤيدون المرشحة الديمقراطية هاريس، بينما 30% يؤيدون المرشح الجمهوري ترامب. والجدير بالذكر أن من بين أهم القضايا التي تشغل بال هؤلاء الشباب هي الاقتصاد، والتغير المناخي، وتقنين حمل الأسلحة، وهي قضايا تمثل الركائز الأساسية للحملة الانتخابية الديمقراطية التي انطلقت من داخل المؤتمر العام للحزب، على الرغم من أن قناعة العديد من الناخبين هي أن الجمهوريين أكثر قدرة على إدارة الاقتصاد من الديمقراطيين.

الخيارات المحدودة

في مجال السياسة الخارجية، يشترك الحزبان في مواقف معينة، خاصة فيما يتعلق بالالتزام بدعم إسرائيل والحفاظ على أمنها. ويمكن فهم ذلك في ضوء النفوذ الكبير الذي تمارسه جماعات الضغط الصهيونية على المرشحين، مما يضعهم في موقف لا يسمح لهم بالخيار عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وهناك أيضًا التركيز على الصين كمنافس استراتيجي حقيقي.

يمكن مراجعة مقالنا المعنون: "اغتيال هنية في طهران والهجوم على الجولان: سيناريوهات أميركا لمواجهة التصعيد"، ومقالنا الآخر بعنوان: "ما بين بايدن وترامب: الانتخابات الأميركية وتأثيرها على الشرق الأوسط".

لقد أظهر المؤتمران اللذان عُقدا مؤخرًا أن الشرق الأوسط لم يعد يمثل أولوية ملحة بالنسبة لواشنطن، وبالتالي يجب على صناع القرار في المنطقة البحث عن بدائل وخيارات استراتيجية تعتمد بشكل أساسي على الإمكانات الذاتية لدول الإقليم، بما في ذلك رأس المال البشري، والاستفادة من نموذج صعود مرشحة الحزب الديمقراطي التي أتت من أدنى السلم الاجتماعي (أم هندية وأب جامايكي)، وأصبحت على وشك قيادة أكبر دولة في العالم. فالإقليم لديه فرصة أكبر من غيره، بشرط فتح الباب للجميع دون تمييز، ومنح كل شخص الثقة في قدرته على بناء مستقبل أفضل له ولأمته.

يكمن أبرز اختلاف في قضايا السياسة الخارجية في الملف الأوكراني والشراكة الأوروبية الأمريكية. فالجمهوريون يميلون إلى الانكفاء على الداخل، بينما يبدو الديمقراطيون أكثر استعدادًا لدعم أوكرانيا والحفاظ على علاقات جيدة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو".

الخلاصة

بناءً على متابعتي لما جرى في مؤتمري الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبالنظر إلى نتائج استطلاعات الرأي العام والحوار الذي أجرته دانا باش، مذيعة شبكة CNN، مع المرشحين الديمقراطيين، أرى أن فرص المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في أن تصبح الرئيسة القادمة لأمريكا أصبحت أكبر من أي وقت مضى (فترة بايدن).

لكن ذلك يتوقف على عدة عوامل، أهمها قدرتها على توسيع قاعدة تحالفاتها السياسية والوصول إلى شريحة الناخبين المستقلين في الولايات المتأرجحة، خاصة العرب والمسلمين في ولاية ميشيغان، والتي ربما تتسبب علاقتها المتوترة بهم في فقدانها هذه الولاية المهمة في السباق نحو البيت الأبيض. كما يجب الأخذ في الاعتبار قدرة تيم والز، المرشح لمنصب نائب الرئيس، على الوصول إلى الناخبين البيض، الذين يمثلون نقطة ضعف لكامالا هاريس ونقطة قوة لترامب.

بالإضافة إلى ذلك، يجب على هاريس الاستمرار في الظهور الناجح في وسائل الإعلام، وخاصة في المناظرة القادمة، وإظهار الجدية اللازمة في التعامل مع تأمين الحدود الجنوبية لأمريكا، وتقديم سياسات واضحة لإقناع الناخبين بدلًا من مجرد تقديم شعارات أو خطوط عامة. في المقابل، تظل فرص ترامب قائمة للفوز في حال تركيزه على قضايا الاقتصاد وتجنب الهجوم الشخصي في خطابه للناخبين. ومع ذلك، تظل فرص كامالا هاريس هي الأقوى وفقًا للمعطيات الحالية.

أخيرًا، يجب على الشرق الأوسط تحديد خياراته، كما ذكرنا في مقالات سابقة، في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء الذين يمتلكون أدوات القوة، وعلى رأسها امتلاك مصادر الطاقة والإنسان القادر على الإبداع والابتكار.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة